تفصيل لابن القيم فى مسألة العذر
قال الإمام ابن القيم رحمه الله فى كتابه طريق الهجرتين
نعم لا بد فى هذا
المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق
فأعرض عنه، ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان فى الوجود، فالمتمكن المُعرض
مُفَرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذى
لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضاً
أحدهما مريد للهدى
مؤثر له محب له، غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب
الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة.
الثانى: معرض لا
إرادة له، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه.
فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما
أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على
غيره، فهو غاية جهدى ونهاية معرفتى.
والثانى: راض بما هو
عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته.
وكلاهما عاجز وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما
بينهما من الفرق: فالأَول كمن طلب الدين فى الفترة ولم يظفر به فعدل عنه بعد
استفراغ الوسع فى طلبه عجزاً وجهلاً، والثانى كمن لم يطلبه، بل مات فى شركه وإن
كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض.
فتأمل هذا الموضع والله يقضي بين عباده يوم
القيامة بحكمه وعدله ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل فهذا مقطوع به في جملة
الخلق وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا فذلك ما لا يمكن الدخول بين
الله وبين عباده فيه بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين
الإسلام فهو كافر وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه
بالرسول هذا في الجملة والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه هذا في أحكام الثواب
والعقاب وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر فأطفال الكفار ومجانينهم
كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة وهو
مبني على أربعة أصول
أحدها أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا
بعد قيام الحجة عليه كما قال تعالى" وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"
وقال تعالى" رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على
الله حجة بعد الرسل "وقال تعالى "كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم
يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء" وقال
تعالى" فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير" وقال تعالى "يا معشر
الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا
شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين "وهذا
كثير في القرآن يخبر أنه إنما يعذب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة وهو المذنب
الذي يعترف بذنبه وقال تعالى "وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين"
والظالم من عرف ماجاء به الرسول أو تمكن من معرفته بوجه وأما من لم يعرف ما جاء به
الرسول وعجز عن ذلك فكيف يقال إنه ظالم ؟
الأصل الثاني أن العذاب يستحق بسببين أحدهما
الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها الثاني العناد لها بعد قيامها
وترك إرادة موجبها فالأول كفر إعراض والثاني كفر عناد وأما كفر الجهل مع عدم قيام
الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل
والأصل الثالث أن قيام الحجة يختلف باختلاف
الأزمنة والأمكنة
والأشخاص فقد تقوم حجة الله على الكفار في
زمان دون زمان وفي بقعة وناحية دون أخرى كما أنها تقوم على شخص دون آخر إما لعدم
عقله وتمييزه كالصغير والمجنون وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر
ترجمان يترجم له فهذا بمنزلة الأصم الذي يلا يسمع شيئا ولا يتمكن من الفهم وهو أحد
الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم في حديث الأسود وأبي
هريرة وغيرهما
الأصل الرابع أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة
لحكمته التي لا يخل بها وأنها مقصودة لغايتها المحمودة وعواقبها الحميدة وهذا
الأصل هو أساس الكلام في هذه الطبقات إلا من عرف ما في كتب الناس ووقف على أقوال
الطوائف في هذا الباب وانتهى إلى غاية مراتبهم ونهاية إقدامهم والله الموفق للسداد
الهادي إلى الرشاد.
وأما من لم يثبت حكمة ولا تعليلا ورد الأمر إلى
محض المشيئة التي ترجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح فقد أراح نفسه من هذا
المقام الضنك واقتحام عقبات هذه المسائل العظيمة وأدخلها كلها تحت قوله لا يُسأل
عما يفعل وهم يسألون وهو فعال لما يريد وصدق الله وهو أصدق القائلين لا يسأل عما
يفعل لكمال حكمته وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها وأنه ليس في أفعاله خلل ولا عبث ولا
فساد يسأل عنه كما يسأل المخلوق وهو الفعال لما يريد ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما
هوم خير ومصلحة ورحمة وحكة فلا يفعل الشر ولا الفساد ولا الجور ولا خلاف مقتضى
حكمته لكمال أسمائه وصفاته وهو الغني الحميد العليم الحكيم ..
تعليقات
إرسال تعليق